بقلم : اسماعيل الحلوتي
نعلم كغيرنا من بني البشر في بقاع العالم، ومن مختلف الطبقات والمشارب، أن الفن رسالة إنسانية نبيلة، تخترق حدود الأمكنة والأزمنة بدون جواز سفر، تحمل أروع القيم، تسمو بالحس والذوق، تشحذ الفكر، وتعمل على تهذيب النفوس وتطهيرها من أدران الازدراء والنرجسية...
وليس يكمن دور الفن في الترفيه والترويح عن النفس وحسب، بل يذهب إلى ما هو أبعد، باعتباره أحد أهم وسائل بناء الشخصية وتشكيل الوعي لدى المتلقي، فهو مرآة صقيلة تعكس عبقرية الفنان في الارتقاء بمستوى الإنسان، وأداة راقية للتعبير عن مشاعره الجياشة، حيال المجتمع والطبيعة وأي مظهر خارجي آخر، إنه حاجة طبيعية وضرورية لصيرورة الحياة كالهواء والطعام والشراب، موهبة ربانية خص بها الخالق عباده بدرجات متفاوتة في الأشكال والألوان، وهو أيضا حالة إبداع صادقة، ، إن لم تكن لحظة خشوع متواصل وإحساس مرهف يتلبس الفنان أثناء ممارسة نشاطه...
من هنا، يجوز القول إن الفنان بيننا، هو ذلك الإنسان الأكثر إحساسا، والأصدق تعبيرا، والأرفع ذوقا والأوسع خيالا.. أو هكذا، وبهذه السمات مجتمعة ينبغي له أن يكون، لأنه الأوفر حظا في امتلاك المواهب والقدرات الفنية، والمتمكن في كل وقت وحين من إسعاد الآخرين، حتى أن علم النفس التحليلي جعل منه مادة خصبة للدرس والتحليل، من خلال ما تراكم لدى العلماء من ملاحظات دقيقة، عن حياته الزاخرة بمختلف أنواع الصراع النفسي الملازم له، والناجم أساسا عن ازدواجية الشخصية التي يعيشها في المسرح والسينما بوجه خاص، لأنه ليس سهلا تقمص الشخصيات والخروج منها بيسر، مما يلزمه الكثير من الجهد للعودة إلى حالته الطبيعية واسترداد استقراره النفسي..
وإذا ما اعتبرنا التمثيل أحد فصول كتاب الفنون الجميلة، التي يتعين على الدولة عبر وزارة الثقافة، إيلاءه إلى جانب مختلف الفنون من: فكاهة، موسيقى، طرب وغناء، شعر، رسم، نحت... ما يستحق من بالغ العناية، لما له من دور طلائعي في التثقيف المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، والمساهمة في جعل المواطن قادرا على اكتساب أدوات النقد البناء، ومقاومة المظاهر السلبية في محيطه الاجتماعي، وبث روح المبادرة في أعماقه ليفكر في حاضره بانتظام ويخطط لمستقبله بدقة، فإن الممثل المقتدر هو من يستطيع توظيف حسه وخبراته، في التعبير الصادق عن مشاغل وقضايا المواطنين، وتحفيزهم على إيجاد حلول ملائمة لمشاكلهم اليومية، عندما يحرص على استخراج ما يميزه عن غيره من قدرات إبداعية وتقديم أحسن المشاهد الفنية، ويبرع في التماهي مع أدواره التمثيلية إلى حد الانصهار في بوتقتها، ويسهر باستمرار على تنمية أسلوبه الفني، وتطوير مستوى تصرفاته، بما يضمن له حب الناس ونيل رضاهم، لذلك تقتضي الضرورة الابتعاد الكلي عن الأنانية، والتشبث بالروابط الإنسانية وتعزيز مكتسباته وملكاته الفنية، نعم لكل تنافس شريف يلهب الحماس لمزيد من البذل العطاء، نعم لكل طموح مشروع يقود بسلاسة إلى الشهرة والنجومية، نعم للتسامح وللحلم والأناة، وألف لا للجحود والغلو، ومليون لا لآفة الغرور، فهي مقبرة ما بعدها نشور. والمتدبر لما جاء في قوله تعالى: " ولا تمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا" (الإسراء: 37)، سيدرك لا محالة من المعاني السامية والحكم البليغة، ما لا يمكن لعاقل أن يخطئ مقاصدها، ولن يتردد غافل في التراجع عن غيه والتخلص من أضغاث أحلامه المزعجة. بيد أنه للأسف الشديد، غالبا ما نصادف في طريقنا وفي المشهد العام زمرة من دعاة الفن، ما إن تلفحهم أشعة شمس الشهرة، حتى يتملكهم شيطان التكبر ويتنكرون لواقعهم ونبل رسالتهم التواصلية...
ونأسف كثيرا أن نجد من بين الممثلين الذين خيبوا ظننا، "الفكاهي" المثير للجدل السيد: سعيد الناصري، الذي لا ننفي أنه ساهم بقدر وافر في طرد أحزاننا وإشعال شموع البهجة في قلوبنا، حتى خيل إلينا في ذلك الزمن الأغبر، أنه هبة من السماء قد تملأ فراغ ساحة الفن الملتزم، لكن طريق الشهرة والمال غالبا ما تكون محفوفة بالمزالق، فالرجل وفي غفلة منا سرعان ما استحال إلى كائن بلا ملامح، تضخمت أناه وجرفه تيار الحقد والاعتداد بالنفس، يحتقر من يشاء أينما يريد ويستصغر من يريد وقتما يشاء، ناسيا أو متناسيا أن الفنان رمز للمواطنة الصادقة وللأخلاق الفاضلة والتضحيات الجسام من أجل بناء مجتمعه وتمثيل بلاده على أحسن وجه في المحافل الدولية... "سعيد" هذا الذي لم يعد يسعد من أحد غير نفسه في الوقت الراهن ما لم يراجع ممارساته، تنبأ له مدرسوه منذ نعومة أظافره بالمستقبل الزاهر، في مجال الضحك والفكاهة إذا واصل دراسته وصقل مواهبه في جو من التواضع ونكران الذات... وعملا بنصائح أصدقائه ومرشديه، ظل ملتصقا بالمجال الفني، إلى أن ساعدته الظروف على الدراسة في إحدى الجامعات بأمريكا، ثم بلجيكا فالمعهد الملكي لتمهيد الشباب بالرباط، حيث كرس أوقاته للعمل المسرحي، انتقل بعد ذلك إلى التلفيزيون ثم حلق عاليا في سماء السينما... بيد أن هذا المسار الحافل بالأحداث لم ينزع عنه ثوب " أولاد الدرب" وظل متمسكا بتلك اللغة الرديئة التي لا تعكس وجه "الفنان" فيه، لسبب بسيط هو أنه لم يعد يتوقف عن أسلوب الاستعلاء والازدراء، معتقدا أنه وحده الأجدر بنشر الفكاهة، وهنا تحضرنا واقعتان من بين هفواته: 1- ما أقدم عليه تجاه زميله النجم الفرنسي الجنسية، ذي الأصول المغربية السيد: جمال الدبوز، إذ في تصريح ل "شذى إف إم" قال بدون حياء : "نتلاقى ب "الدبوز" ندفل ليه على وجهو، ونقدر ندير ليه حتى اكثر" يا سلام على لغة "البانضية" ! ترى كيف لمن يدعي الفن، ألا يجد غضاضة في استخدام مثل هذه "اللغة" الوضيعة في حق زميل بمحطة إذاعية؟ وعذره في ذلك أقبح من الزلة، حين يزعم أن غريمه تنكر لفضائله عليه، سرق منه فكرة المهرجان الدولي للضحك بمراكش، ولم يقدم للمغرب أي قيمة مضافة عدا حصد الأموال وتهريبها إلى فرنسا، علما أن المهرجان استمر يلاقي نجاحا باهرا طيلة دوراته الثلاث، إن على مستوى إنعاش السياحة واقتصاد المدينة أو إعطاء الفرص حتى للمواهب الصاعدة والواعدة. وإذا كان هناك من إثباتات، فما المانع من الملاحقة القانونية؟ 2- واقعة ما تعرض له أحد المواطنين من إذلال على يده، ذلك أنه خلال تصويره لإحدى اللقطات التمثيلية من فيلم "سارة" بمدينة أكادير، باغته صوت محرك دراجة نارية، لم يكن يعلم صاحبها أنه إزاء تصوير مشهد سينمائي، لغياب ما يفيد بذلك، فما كان من "فرعون" زمانه إلا أن انهال عليه بوابل من الشتم مستعملا ألفاظا نابية أمام اندهاش واستغراب المارة، مما أثار استياء وتذمر الساكنة، التي اختارت المواقع الاجتماعية للتنديد والتصعيد، من خلال تعليقات واحتجاجات قوية، تطالب بإصرار التوقيف الفوري للتصوير إلى حين تقديم اعتذار علني عن هذا السلوك الأرعن والطائش...
إياك والاستمرار في ركوب أمواج العناد والغرور، فقد يتحطم مركبك سريعا على الصخور، ولا تعتقد أن دور الممثل ينحصر فقط في الإضحاك أو تقمص الشخصيات الدرامية، ومحاولة محاكاتها وتمثل ملامحها وصفاتها، للممثل دور أعمق من ذلك بكثير، إنه رسول من نوع خاص، أعماله أرقى من أن تصيب بأذى، هي بلسم للروح وغذاء للفكر، والفنان الصادق هو من يشكل عينا فاحصة للواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولسانا ينتصر لكرامة المواطن، وهو الضمير الحي للأمة ، القادر على تحويل القبيح من الأشياء إلى ما هو أجمل وأرقى... كن "رجاويا"، لتصبح سعيدا وناقلا للسعادة.